الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
.تفسير الآية رقم (12): {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)}{يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ}.وقرئ {يُقَدّرُ} بالتشديد {إِنَّهُ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} مبالغ في الإحاطة به فيفعل كل ما يفعل جل شأنه على ما ينبغي أن يفعل عليه، والجملة تعليل لما قبلها وتمهيد لما بعدها من قوله تعالى:.تفسير الآية رقم (13): {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)}{شَرَعَ لَكُم مّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحًا والذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى} وإيذان بأن ما شرع سبحانه لهم صادر عن كمال العلم والحكمة كما أن بيان نسبته إلى المذكورين عليهم الصلاة والسلام تنبيه على كونه دينًا قديمًا أجمع عليه الرسل، والخطاب لأمته عليه الصلاة والسلام أي شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا ومن بعده من أرباب الشرائع وأولي العزم من مشاهير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأمرهم به أمرًا مؤكدًا، وتخصيص المذكورين بالذكر لما أشير إليه من علو شأنهم وعظم شهرتهم ولاستمالة قلوب الكفرة إلى الأتباع لاتفاق كل على نبوة بعضهم واختصاص اليهود وسى عليه السلام والنصارى بعيسى عليه السلام وإلا فما من نبي إلا وهو مأمور بما أمروا به من إقامة دين الإسلام وهو التوحيد وما لا يختلف باختلاف الأمم وتبدل الإعصار من أصول الشرائع والأحكام كما بنبئ عنه التوصية فإنها معربة عن تأكيد الأمر والاعتناء بشأن المأمور به، والمراد يايحائه إليه صلى الله عليه وسلم إما ما ذكر في صدر السورة الكريمة وفي قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الشورى: 7] الآية وإما ما يعمهما وغيرهما مما وقع في سائر المواقع التي من جملتها قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا} [النحل: 123] وقوله سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحِى *إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ} [الكهف: 110] وغير ذلك، وإيثار الإيحاء على ما قبله وما بعده مْ التوصية لمراعاة ما وقع في الآيات المذكورة ولما في الإيحاء من التصريح برسالته عليه الصلاة والسلام القامع لإنكار الكفرة، والالتفات إلى نون العظمة لإظهار كمال الاعتناء بإيحائه، وفي ذلك إشعاء بأنه شريعته صلى الله عليه وسلم هي الشريعة المعتني بها غاية الاعتناء ولذا عبر فيها بالذي التي هي أصل الموصولات وذلك هو السر في تقديم الذي أوى إليه عليه الصلاة والسلام على ما بعده مع تقدمه عليه زمانًا، وتقديم توصية نوح عليه السلام للمسارعة إلى بيان كون المشروع لهم دينًا قديمًا، وقد قيل: إنه عليه الصلاة والسلام أول الرسل، وتوجيه الخطاب إليه عليه الصلاة والسلام بطريق التلوين للتشريف والتنبيه على أنه تعالى شرعه لهم على لسانه صلى الله عليه وسلم {أَنْ أَقِيمُواْ الدين} أي دين الإسلام الذي هو توحيد الله تعالى وطاعته والإيمان بكتبه ورسله وبيوم الجزاء وسائر ما يكون العبد به مؤمناف، والمراد بإقامته تعديل أركانه وحفظه من أن يقع فيه زيغ والمواظبة عليه، و{ءانٍ} مصدرية وتقدم الكلام في وصلها بالأمر والنهي أو مخففة من الثقيلة لما في {شَرَعَ} من معنى العلم، والمصدر اما منصوب على أنه بدل من مفعول {شَرَعَ} والمعطوفين عليه أو مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف والجملة جواب عن سؤال نشأ من إبهام المشروع كأنه قيل: وما ذاك؟ فقيل: هو أن أقيموا الدين، وقيل: هو مجرور على أنه بدل من ضمير {بِهِ} ولا يلزمه بقاء الموصول بلا عائد لأن المبدل منه ليس في نية الطرح حقيقة، نعم قال شيخ الإسلام: إنه ليس بذاك لما أنه مع إفضائه إلى خروجه عن حيز الإيحاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم مستلزم لكون الخطاب في النهي الآتي عن التفرق للأنبياء المذكورين عليهم السلام وتوجيه النهي إلى أممهم تمحل ظاهر مع أن الأظهر أنه متوجه إلى أمته صلى الله عليه وسلم وأنهم مالتفرقون، ثم بين ما استظهره وسنشير إليه إن شاء الله تعالى.وجوز كونه بدلًا من {الدين} ويجوز كون {ءانٍ} مفسرة فقد تقدمها ما يتضمن معني القول دون حروفه والخطاب في {أَقِيمُواْ} وقوله تعالى: {وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} على ما اختاره غير واحد من الأجلة شامل للنبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه وللأنبياء والأمم قبلهم وضمير {فِيهِ} للدين أي ولا تتفرقوا في الدين الذي هو عبارة عما تقدم من الأصول بأن يأتي به بعض ولا يأتي بعض ويأتي بعض ببعض منه دون بعض وهو مراد مقاتل أي لا تختلفوا فيه، ولا يشمل هذا النهي عن الاختلاف في الفروع فإنها ليست من الأصول المرادة هنا ولم يتحد بها النبيون كما يؤذن بذلك قوله تعالى: {لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا} [المائدة: 48] وبعضهم أدخل بعض الفروع في أصول الدين المرادة هنا من الدين.قال مجاهد: لم يبعث نبي إلا أمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإقرار بالله تعالى وطاعته سبحانه وذلك إقامة الدين، وقال الحافظ أبو بكر بن العربي: لم يكن مع آدم عليه السلام إلا بنوه ولم يفرض له الفرائض ولا شرعة له المحارم وإنما كان منبهًا على بعض الأمور مقتصرًا على بعض ضروريات المعاش واستمر الأمر إلى نوح عليه السلام فبعثه الله تعالى بتحريم الأمهات والبنات ووظف عليه الواجبات وأوضح له الأدب في الديانات ولم يزل ذلك يتأكد بالرسل ويتناصر الأنبياء واحدًا بعد واحد وشريعة أثر شريعة حتى ختمه سبحانه بخير الملل على لسان أكرم الرسل، فمعنى الآية شرعنا لكم ما شرعنا للأنبياء دينًا واحدًا في الأصول وهي التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج والتقرب بصالح الأعمال والصدق والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وصلة الرحم وتحريم الكبر والزنا والإيذاء للخلق والاعتداء على الحيوان واقتحام الدناءات وما يعود بخرم المروءات فهذا كله مشروع دينًا واحدًا وملة متحدة لم يختلف على ألسنة الأنبياء وان اختلفت أعدادهم، ومعنى {أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} اجعلوه قائمًا أي دائمًا مستمرًا من غير خلاف فيه ولا اضطراب انتهى، ولعله أراد بالصلاة والزكاة والصيام والحج مطلقها لا ما نعرفه في شرعنا منها فإن الصلوات الخمس والزكاة المخصوصة وصيام شهر رمضان من خواص هذه الأمة على الصحيح، والظاهر أن حج البيت لم يشرع لأمة موسى وأمة عيسى عليهما السلام ولا لأكثر الأمم قبلهما على أن الآية مكية ولم تشرع الزكاة المعروفة وصيام رمضان إلا في المدينة، وبالجملة لا شك في اختلاف الأديان في الفروع، نعم لا يبعد اتفاقها فيما هو من مكارم الأخلاق واجتناب الرذائل {كَبُرَ} أي عظم وشق {عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} على سبيل الاستمرار التجددي من التوحيد ورفض عبادة الأصنام ويشعر بإرادته التعبير بالمشركين وهو أصل الأصول وأعظم ما شق عليهم كما تنبئ بذلك الآيات أو ما تدعوهم إليه من إقامة الدين وعدم التفرق فيه {الله يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَاء} تسلية له صلى الله عليه وسلم بأن منهم من يجيب، و{يَجْتَبِى} من الاجتباء عنى الاصطفاء والضمير في {إِلَيْهِ} لله تعالى كما ذكر محيي السنة وغيره وكذا الضمير في قوله تعالى: {وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ يُنيبُ} أي يصطفي إليه سبحانه من يشاء اصطفاءه ويخصصه سبحانه بفيض إلهي يتحصل له منه أنواع النعم ويهدي إليه عز وجل بالإرشاد والتوفيق من يقبل إليه تعالى شأنه.وعدى الإجتباء بإلى لما فيه من الجمع على ما يفهم من كلام الراغب، وجعله جمع من الجباية عنى الجمع يقال جبيت الماء في الحوض جمعته فيه فمنهم من اختار جعل ضمير {إليه} في الموضعين لما لما فيه من اتساق الضمائر أي يجتلب ويجمع من يشاء اجتلابه وجمعه إلى ما تدعوهم إليه، ومنهم من اختار جعله للدين لمناسبة معنوية هي اتحاد المتفرق فيه والمجتمع عليه والزمخشري اختار كونه من الجباية عنى الجمع وعود الضمير على الدين، وما ذكره محيى السنة وغيره قال في الكشف أظهر وأملأ بالفائدة، أما الثاني فللدلالة على أن أهل الاجتباء غير أهل الاهتداء وكلتا الطائفتين هم أهل الدين والتوحيد الذين لم يتفرقوا فيه وعلى مختار طائفة واحدة.وأما الأول فلأن الاجتباء عنى الاصطفاء أكثر استعمالًا ولأنه يدل على أن أهل الدين هم صفوة الله تعالى اجتباهم إليه واصطفاهم لنفسه سبحانه، وأما الذي آثره الزمخشري فكلام ظاهري بناه على أن الكلام في عدم التفرق في الدين فناسب الجمع والانتهاء إليه، وقيل: {مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} على معنى ما تدعوهم إلى الإيمان به والمراد به الرسالة أي ثقلت عليهم رسالتك وعظم لديهم تخصيصنا إياك بالرسالة والوحي دونهم وقوله تعالى: {الله يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَاء} رد عليهم على نحو {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] وما قدمنا أظهر..تفسير الآية رقم (14): {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)}{وَمَا تَفَرَّقُواْ} أي أمم الأنبياء بعد وفاة أنبيائهم كما في الكشف منذ بعث نوح عليه السلام في الدين لأالذي دعوا إليه واختلفوا فيه في وقت من الأوقات {إِلاَّ مِن بَعْدِ حتى جَاءهُمُ العلم} من أنبيائهم بأن الفرقة ضلال وفساد وأمر متوعد عليه؛ وهذا يؤيد ما دل عليه سابقًا من أن الأمم القديمة والحديثة أمروا باتفاق الكلمة وإقامة الدين، والمراد بالعلم سببه مجازًا مرسلًا، ويجوز أن يكون التجوز في الاسناد، وأن يكون الكلام بتقدير مضاف أي جاءهم سبب العلم، وقد يقال جاء مجاز عن حصل، والاستثناء على ما أشرنا إليه مفرغ من أعم الأوقات، وجوز أن يكون من أعم الأحوال أي ما تفرقوا في حال من الأحوال إلا حال مجيء العلم {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} أي عداوة على أن البغي الظلم والتجاوز والعداوة سبب له وهي الداعي للتفرق أو طلبا للدنيا والرياسة على أن البغي مصدر بغى عنى طلب {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ} هي عدته تعالى بترك معاجلتهم بالعذاب {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} معلوم له سبحانه وهو يوم القيامة أو آخر أعمارهم المقدرة لهم {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} باستئصال المبطلين حين افترقوا لعظم ما اقترفوا {وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ} هم أهل الكتاب الذين كانوا في عهده صلى الله عليه وسلم وقرأ زيد ابن علي {وَرِثُواْ} مبنيًا للمفعول مشددًا لواو {لَفِى شَكّ مّنْهُ} أي من كتابهم فلم يؤمنوا به حق الإيمان {مُرِيبٍ} مقلق أو مدخل في الريبة، والجملة اعتراض يؤكد أن تفرقهم ذلك باق في أعقابهم منضمًا إليه الشك في كتابهم مع انتسابهم إليه فهو تفرقوا بعد العلم الحاصل لهم من النبي المبعوث إليهم المصدق لكتابهم وتفرقوا قبله شكا في كتابهم فلم يمنوا به ولم يصدقوا حقه..تفسير الآية رقم (15): {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)}{فَلِذَلِكَ} أي إذا كان الأمر كما ذكر فلأجل ذلك التفرق ولما حدث بسببه من تشعب الكفر في الأمم السالفة شعبًا {فادع} إلى الائتلاف والاتفاق على الملة الحنيفية القديمة {واستقم كَمَا أُمِرْتَ} أي أثبت على الدعاء كما أوحى إليك، وقيل: الإشارة إلى قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُم} [الشورى: 13] وما يتصل به ونقل عن الواحدي أي ولأجل ذلك من التوصية التي شوركت فيها مع نوح ومن بعده ولأجل ذلك الأمر بالإقامة والنهي عن التفرق فادع، وما ذكر أولى لأن قوله تعالى: {أَنْ أَقِيمُواْ} شمل النبي عليه الصلاة والسلام وأتباعه كما سمعت، ويدل عليه {كبر على المشركين ما تدعوهم أليه} [الشورى: 13] فقوله تعالى: {فَلِذَلِكَ فادع} إلخ لا يتسبب عنه لما يظهر من التكرار وهو تفرع الأمر عن الأمر، وأما تسببه عن تفرقهم فظاهر على معنى فلما أحدثوا من التفرق وأبدعوا فاثبت أنت على الدعاء الذي أمرت به واستقم وهذا ظاهر للمتأمل.ومن الناس من جعل المشار إليه الشرع السابق ولم يدخل فيه الأمر بالإقامة لئلا يلزم التكرار أي فلأجل أنه شرع لهم الدين القويم القديم الحقيق بأن يتنافس فيه المتنافسون فادع، وقيل: هو الكتاب، وقيل: هو العلم المذكور في قوله تعالى: {جَاءهُمُ العلم} [الشورى: 14] وقيل: هو الشك ورجح بالقرب وليس بذاك، واللام على جميع الأقوال المذكورة للتعليل، وقيل: على بعضها هي عنى إلى صلة الدعاء فما بعدها هو المدعو إليه، وأنت تعلم أنه لا حاجة في إرادة ذلك إلى جعلها عنى إلى فإن الدعاء يتعدى بها أيضًا كما في قوله:ونقل ذلك عن الفراء والزجاج، وأيًا ما كان فالفاء الأولى واقعة في جواب شرط مقدر كما أشرنا إليه والفاء الثانية مؤكدة للأولى، وقيل: كان الناس بعد الطوفان أمة واحدة موحدين فاختلف أبناؤهم بعد موتهم حين بعث الله تعالى النبيين مبشرين ومنذرين، وجعل ضمير {تَفَرَّقُواْ} لأخلاف أولئك الموحدين والذين أورثوا الكتاب باق على ما تقدم والأول أظهر.وقيل: {ضمير} تفرقوا لأهل الكتاب تفرقوا من بعد ما جاءهم العلم بعث النبي صلى الله عليه وسلم فهذا كقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة} [البينة: 4] وإنما تفرقوا حسدًا له عليه الصلاة والسلام لالشبهة، والمراد بالذين أورثوا الكتاب من بعدهم مشركو مكة وأحزابهم لأنهم أورثوا القرآن فالكتاب القرآن وضمير منه له وقيل للرسول وهو خلاف الظاهر، واختار كون المتفرقين أهل الكتاب اليهود والنصارى والمورثين الشاكين مشركي مكة وأحزابهم شيخ الإسلام واستظهر أن الخطاب في {أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} [الشورى: 13] لأمته صلى الله عليه وسلم. وتعقب القول بكون المتفرق كل أمة بعد نبيها والقول بكونه اخلاف الموحدين الذين كانوا بعد الطوفان فقال: يرد ذلك قوله تعالى: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِىَ بِيْنَهُمْ} [الشورى: 14] فإن مشاهير الأمم المذكورة قد أصابهم عذاب الاستئصال من غير إنظار إمهال على أن مساق النظم الكريم لبيان أحوال هذه الأمة وإنما ذكر من ذكر من الأنبياء عليهم السلام لتحقيق أن ما شرع لهؤلاء دين قديم أجمع عليه أولئك الأعلام عليهم الصلاة والسلام تأكيد الوجوب إقامته وتشديدًا للرجز عن التفرق والاختلاف فيه فالتعرض لبيان تفرق أممهم عنه را يوهم الاخلال بذلك المرام انتهى.وأجيب عن الأول بأن ضمير {بَيْنَهُمْ} لأولئك الذين تفرقوا وقد علمت أن المراد بهم المتفرقون بعد وفاة أنبيائهم وهو لم يصبهم عذاب الاستئصال وإنما أصاب الذين لم يؤمنوا في عهد أنبيائهم واطلاق المتفرقين ليس بذاك الظهورو، وقيل: المراد لقضي بينهم ريثما افترقوا ولم يمهلوا أعواما، وقيل: المراد لقضي بينهم باهلاك المبطين وإثابة المحقين إثابتهم في العقبى وهو كما ترى، وعن الثاني بأنا لا نسلم إيهام التعرض لبيان تفرق الأمم الإخلال بالمرام بعد بيان أنه لم يكن إلا بعد أن جاءهم العلم بأنه ضلال وفساد وأمر متوعد عليه وأنه كان بغيا بينهم ولم يكن لشبهة في صحة الدين، وقيل: ضمير {تَفَرَّقُواْ} للمشركين في قوله تعالى: {كَبُرَ عَلَى المشركين} [الشورى: 13].حكى في البحر عن ابن عباس أنه قال: وما تفرقوا يعني قريشًا والعلم ممد صلى الله عليه وسلم وكانوا يتمنون أن يبعث إليهم نبي كما قال سبحانه: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ} [فاطر: 42] الآية، وقد يقال عليه: المراد بالذين أورثوا الكتاب أهل الكتاب الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى {من بعدهم} [الشورى: 14] على ما قال أبو حيان من بعد أسلافهم.ونقل الطبرسي عن السدى ما يدل على أن المراد من بعد احبارهم وفسر الموصول بعوام أهل الكتاب، وقيل: ضمير بعدهم للمشركين أيضًا والبعدية رتبية كما قيل في قوله تعالى: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها} [النازعات: 30] ولا يخفى عليك أنه لا بأس بعود ضمير {تَفَرَّقُواْ} للمشركين لوجود للذين أورثوا الكتاب توجيه يقع في حيز القبول والله تعالى الموفق، وجعل متعلق {استقم} الدعاء لا تخفى مناسبته. وجوز جعله عامًا فيكون استقم أمرًا بالاستقامة في جميع أموره عليه الصلاة والسلام، والاستقامة أن يكون على خط مستقيم، وفسرها الراغب بلزوم المنهج المستقيم فلا حاجة إلى التأويل بالدوام على الاستقامة أي دم على الاستقامة {الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ} أي شيئًا من أهوائهم الباطلة على أن الإضافة للجنس {وَقُلْ ءامَنتُ بما أَنزَلَ الله مِن كتاب} أي بجميع الكتب المنزلة لأن ما من أدوات العموم، وتنكير {كِتَابٌ} المبين مؤيد لذلك، وفي هذا القول تحقيق لحق وبيان لاتفاق الكتب في الأصول وتأليف القلوب لأهل الكتابين وتعريض بهم حيث لم يؤمنوا بجميعها {وَأُمِرْتُ لاِعْدِلَ بَيْنَكُمُ} أي أمرني الله تعالى بما أمرني به لأعدل بينكم في تبليغ الشرائع والأحكام فلا أخص بشيء منها شخصًا دون شخص وقيل: لأعدل بينكم في الحكم إذا تخاصمتم، وقيل: بتبليغ الشرائع وفصل الخصومة واختاره غير واحد، وقيل: لا سوى بيني وبينكم ولا آمركم بما لا أعلمه ولا أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ولا أفرق بين أصاغركم وأكابركم في إجراء حكم الله عز وجل، فاللام للتعليل والمأمور به محذوف، وقيل: اللام مزيدة أي أمرت أن أعدل ويحتاج لتقدير الباء أي بأن أعدل، ولا يخلو عن بعد {الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} أي خالق الكل ومتولي أمره فليس المراد خصوص المتكلم والمخاطب {لَنَا أعمالنا} لا يتخطانا جزاؤها ثوابًا كان أو عقابًا {وَلَكُمْ أعمالكم} لا يجاوزكم آثارها لننتفع بحسناتكم ونتضرر بسيئاتكم {لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} أي لا احتجاج ولا خصومة لأن الحق قد ظهر فلم يبق للاحتجاج حاجة ولا للمالفة محمل سوى المكابرة والعناد، وجاءت الحجة هنا على أصله فإنها في الأصل مصدر عنى الاحتجاج كما ذكره الراغب وشاعت عنى الدليل وليس راد {الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا} يوم القيامة {وَإِلَيْهِ المصير} فيفصل سبحانه بيننا وبينكم، وليس في الآية ما يدل على متاركة الكفار رأسًا حتى تكون منسوخة بآية السيف، وادعى أبو حيان أن ما يظهر منها الموادعة المنسوخة بتلك الآية.
|